وصفة نبوية للخشوع في الصلاة
الصلاة من أعظم أركان الدين بعد الشهادتين، وهي أم العبادات، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل، وخير ما يتقرب به العبد إلى الله، قال صلى الله عليه وسلم: (استقيموا ولن تُحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة)، وهي من أعظم مكفرات الذنوب، وأول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة، ثم هي وصية رسولنا الأكرم صلى الله عليه وسلم في آخر رمقٍ له، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كانت آخر وصية رسول الله وهو يغرغر بها لسانه: الصلاة الصلاة، اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم).
أسوأ السارقين
والصلاة مفتاح الجنة، والخشوع روح الصلاة، والصلاة الخاشعة جزاؤها المغفرة، قال صلى الله عليه وسلم: (ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم تؤت كبيرة وذلك الدهر كله)، والمصلي بلا خشوع سارق، بل هو أسوأ السارقين، فعن أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته، قال يا رسول الله، كيف يسرق صلاته؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها).وقد حذرنا صلى الله عليه وسلم من أن الخشوع أول ما يرفع من هذه الأمة فقال: (أول شيء يرفع من هذه الأمة الخشوع حتى لا ترى فيها خاشعاً)، فتجد المصلي يكبر ويركع ويقوم ويسجد وذهنه غائب، وقلبه مشتت، يؤدي حركات قيام وركوع وسجود، ويقرأ ما يقرأ، ويسبح ويذكر الله وكل ذلك من غير وعي بما يفعل ولا استحضار لما يقول، مشغولاً بإتمام صلاته، بدل أن ينشغل بإقامتها على الوجه الذي يليق بها، جوارح تتحرك، وقلب ذاهل، مشغول بكل شيء، إلا الانكسار لله تعالى، فينصرف من صلاته وليس له منها غير حركاتها وسكناتها، وبعض ما أدرك منها بالخشوع، قال صلى الله عليه وسلم: (إن العبد لينصرف من صلاته، ولم يكتب له منها إلا نصفها، إلا ثلثها، إلا ربعها، إلا خمسها، إلا سدسها، إلا سبعها، إلا ثمنها، إلا تسعها، إلا عشرها)..والصلاة التامة تدعو لصاحبها والصلاة الناقصة تدعو على صاحبها، كما أخبرنا صلى الله عليه وسلم قال: (إن الرجل إذا صلى الصلاة فلم يتم ركوعها ولا سجودها لفّت كما يلف الثوب الرديء فتلقى في وجهه، وتقول: ضيعك الله كما ضيعتني، وإذا أتم ركوعها وسجودها لفت كما يلف الثوب الطيب الحسن ودعت له قائلة: حفظك الله كما حفظتني)، والفارق بينهما في الخشوع.
كيف تخشع؟
(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ)، وللخشوع وصفة من سنته صلى الله عليه وسلم، تبدأ من لحظة أن تهم بالوضوء تطهراً للقاء الله، فكما أخبر صلى الله عليه وسلم: (مفتاح الصلاة الوضوء)، فتوضأ وأنت موقن بأنه طهور للبدن وللنفس معاً، قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إذا توضأ العبد المؤمن فتمضمض خرجت الخطايا من فيه، وإذا استنثر خرجت الخطايا من أنفه، فإذا غسل وجهه خرجت الخطايا من وجهه حتى تخرج من تحت أشفار عينيه، فإذا غسل يديه خرجت الخطايا من يديه حتى تخرج من تحت أظفار يديه، فإذا مسح برأسه خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج من أذنيه، فإذا غسل رجليه خرجت الخطايا من رجليه حتى تخرج من تحت أظفار رجليه، قال: (ثم كان مشيه إلى المسجد وصلاته نافلة له)، فتمثل خروج الخطايا من كل عضو على الهيئة التي ذكرها صلى الله عليه وسلم، واستشعر خروج ذنوبك من تحت أجفان عينيك، ومن تحت أظفار يدك، ومن تحت أذنيك، ومن رأسك، ومن رجليك. وأذكر في هذا المقام، ما رواه عقبة بن عامر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من قام إذا استقلت الشمس، فتوضأ فأحسن الوضوء، ثم قام فصلى ركعتين خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه)، قال عقبة: فقلت: الحمد لله الذي رزقني أن أسمع هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان تجاهي جالساً: أتعجب وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أعجب من هذا قبل أن تأتي؟ فقلت: وما ذاك بأبي أنت وأمي؟ فقال عمر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من توضأ فأحسن الوضوء، ثم رفع بصره (أو نظره) إلى السماء فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فتحت له ثمانية أبواب الجنة يدخل من أيها شاء)، فارفع بصرك إلى رب السماء وردد الشهادة على النحو المذكور تكون قد تهيأت للخشوع في صلاتك مطهرا من الأوساخ ومن الذنوب.ثم استحضر في قلبك عظمة وجلال من ستقبل عليه، وأخرج الدنيا بكل ما فيها ومن فيها من قلبك، وارمها وراء ظهرك لحظة ترتفع يداك إلى منكبيك بتكبيرة الإحرام، وانظر إلى سلفك الصالح كان أحدهم يقول: (أصلي وكأنما ملك الموت آت من وراء ظهري والجنة عن يميني وكأن النار عن شمالي وكأن الصراط منصوب تحت قدمي وكأن عرش الرحمن من أمامي فإذا فرغت من الصلاة لم أدر أمقبولة صلاتي أم لا).
الإقبال على الله
لا يخشع في صلاته إلا من يقبل على الله بقلبه، يقول الإمام الغزالي: (استجمع قلبك في ثلاثة مواضع عند قراءة القرآن، وعند الصلاة، وعند ذكر الموت، فإن لم تجدها في هذه المواضع، فاسأل الله أن يمن عليك بقلب، فإنه لا قلب لك)، فاحرص على أن تستشعر بقلبك قولك: الله أكبر، قلها بقلبك وبعقلك معاً: “الله أكبر”، أكبر من أي شيء يمكن أن يأخذك من الوقوف في حضرته بكل انتباهك، وبكامل وعيك، وتذكر أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ليس للمرء من صلاته إلا ما عقل منها)، واعلم أن الدخول في الصلاة يعني الدخول على الله تبارك وتعالى، تقول: “الله أكبر” فيقبل الله بجلاله وعظمته عليك، وينظر إليك، ويظل جل جلاله مقبلاً عليك ما دمت مقبلاً عليه، فإذا انصرفت عن الإقبال عليه، انصرف الله عنك، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله يقبل على العبد في الصلاة ما لم يلتفت، فإذا صرف العبد وجهه انصرف الله عنه)، فهل استحضرت هذا المعنى العظيم الذي يجسده الحديث القدسي الذي رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تعالى: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد (الحمد لله رب العالمين)، قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: (الرحمن الرحيم)، قال الله تعالى: أثنى عليّ عبدي، وإذا قال: (مالك يوم الدين)، قال: مجدني عبدي، وقال مرة فوض إليّ عبدي، فإذا قال: (إياك نعبد وإياك نستعين)، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: (اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين)، قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل).
صلاة مودع
واذكر وصفه صلى الله عليه وسلم للصلاة كما ينبغي أن تؤدى: (إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم اجلس حتى تطمئن جالساً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، واجعل ذلك في صلاتك كلها).اركع تذللا لخالق الكون ومبدع السموات والأرض، وتفكر في عظمة الله وكبريائه وسلطانه وملكوته، وأن تستحضر فيه ذنبك وتقصيرك وعيبك، وتتفكر في قدر الله وجلاله وغناه، فتظهر حاجتك وفقرك وتذللك لله وحده قائلاً: (اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي).واسجد واقترب، اسجد خضوعاً للعلي القدير، واعلم أن اقترابك على قدر خضوعك، وأن قربك مرهون بخشوعك، وقل بكل مجامع قلبك كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في سجوده: (سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة)، واعلم أنك الآن في أقرب موضع لإجابة الدعاء، ومغفرة الذنوب، ورفع الدرجات، كما أخبرنا صلى الله عليه وسلم: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء فيه).وفي تشهدك استعذب معنى أن يلقي مثلك وأنت الفقير التحيات للغني الحميد في تشهدك، (التحيات لله والصلوات والطيبات)، واعلم أنك إذ تسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه يرد عليك السلام، كما صح ذلك في الحديث، ثم استحضر معاني الأخوة حين تسلم على نفسك وعلى عباد الله الصالحين، وجدد شهادتك كل صلاة: بأن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، وصل على نبيك وآله، وإبراهيم وآله، وبارك على نبيك وآله، وعلى إبراهيم وآله، ثم استعذ بالله من عذاب النار والقبر ومن فتنة المسيح الدجال وفتنة المحيا والممات.ولا تغفل لحظة عن وصية رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم لأبي أيوب الأنصاري: (إذا قمت في صلاتك فصل صلاة مودع)، صلاة من يظن أنه لن يصلي غيرها، واخشع لله في كل صلاة أنت فيها لأنك لا تدري لعلها تكون هي الأخيرة.