مراقي الصائمين
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } إعجاز خطاب الله أن نفس الخطاب يخاطب جميع الطلاب في جميع الدرجات الإلهية بنفس الألفاظ والعبارات القرآنية لكن كل واحد منهم يلتقط من المعاني الغيبية والإشارات الرحمانية والأسرار القرآنية ما يليق بمرتبته عند رب البرية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} فهم منها قوم أن الخطاب لكل المسلمين وهذا حق في علم التشريع وخص بها قومٌ الحقائق التي بها الإيمان عند المتقين وكأن الله يخاطب فينا القلب والفؤاد والروح والسر والخفا والأخفى ونفخة القدس لأن هذه هي الحقائق التي آمنت إيماناً كلياً يقينياً بكل الحقائق القرآنية والبيانات الإلهية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ}كما كتب على الجسم والجوارح والنفس وهذا صيام العوام أما صيام الخواص فهو للفتح فهناك صوم للأجر والثواب وهناك صوم للفتح عند الكريم الوهاب أما الصوم الذي للأجر والثواب فصيام الجسم والجوارح إذا أناب العبد لله ليعظم أجره فإذا صام بجسمه أطاع وإذا صام بجسمه وجوارحه نال أعظم الأجور عند الله لمن أطاع وأما صيام الفتح وأهل الفتح ذكره الله في كتاب الله فمنهم من قال {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً} ما صيامك؟ {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً} هذا صيام والصمت التام ممنوع في دين الله إذاً مع من يتكلم؟ يتكلم مع الروحانيين والنورانيين والملائكة الكروبيين وأهل عالين وعليين أو يتكلم مع من علت روحانيتهم على بشريتهم فأصبحوا وهم في الأجساد الآدمية أرواحاً إلهية تسكن في هذه الأجساد الآدمية وتتحرك بين الناس وإن كانت تسوح بالقلب والروح في ملكوت رب الناس ومنهم من قالوا له إذا كنت تريد الفتح فلك آية {آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً} تصوم عن الكلام مع الأنام لتتكلم مع الله يأتيك الله في ظلل من الغمام {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} أيُّ الصيام؟ صيام العوام: عن الشراب والجنس والطعام لكن يتركون لأنفسهم الحبل علي غاربه تلهو وتلعب وتسرح وتمرح وتشاهد المسلسلات وتقضي الوقت في اللهو في الدومينو وفي الكوتشينة وفي الطاولة بحجة أن هذا تسالي للصيام وتقطع الوقت في القيل والقال ولو في غيبة أو نميمة ولا يحاسب نفسه علي ذلك إنه بذلك دخل في قول المصطفي عليه أفضل الصلاة وأتم السلام {رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلاَّ الْجُوعُ }[1] هذا صيام العوام ومن هنا فبداية الصيام لمن أراد رضاء الملك العلام أولاً الصوم عن اللهو بكل أنواعه وكافة أشكاله يصوم عن جميع الملاهي التي تلهي الإنسان عن طاعة الله حتى قال الله {لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ} حتى ولو كان المال والولد كل شيء كما قال الإمام الداراني (كل ما شغلك عن الله حتى ولو مال أو ولد فهو عليك مشئوم) فالصيام لأهل البدايات هو الصيام عن اللهو ليس عند المؤمن وقت للهو لأن الحياة الدنيا لعب ولهو والمؤمن يعيش في الدنيا في الآخرة وهو بين الأنام مزاحه حق ولهوه حق وكل أعماله يثيبه عليها الحق لأنه تأسي فيها بالنبي ولا عبرة له بما يفعله بقية الأنام لأنه يعمل بقول الله {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} إذاً متى يضع الإنسان قدمه - قدم الصدق - في طريق الصائمين الصادقين مع رب العالمين؟ إذا صام عن اللهو إذاً من يجلس يضيع الساعات في نهار رمضان في مشاهدة المسلسلات ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش أو تَسْلِية الوقت بمشاهدة الأفلام ويعتقد أنها مباحات ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش أما من يقضي وقته بشيء من اللعب فهذا يدخل في قول النبي{مَنْ لَعِبَ بالنَّرْدِ، فكأنَّمَا غَمَسَ يَدَهُ في لَحْمِ خِنْزِيرٍ ودَمِهِ}[2] والنرد كلمة فارسية تشمل الطاولة وتشمل الدومينو وتشمل الكوتشينة وتشمل الشطرنج كل هذه الألعاب الذي سيلعب بها إذا كان لمجرد التسلية فسيكون كغامس يده بدم خنزير أما إذا كان يلعب فيها ويتسابق علي شيء محدد فهذا قمار والمؤمن ليس عنده وقت لذلك وإذا أراد الصائم أن يكون له عند الله مقام لا بد أن يرتقي درجة عن هذا المقام فبعد أن يصوم عن اللهو لا بد أن يصوم عن اللغو عن لغو الكلام وهذا هو الصوم الذي يوصل العبد إلى مراقي الصالحين متى يقف العبد على أول طريق الصالحين؟ إذا استطاع أن يصوم عن اللغو في كل وقت وحين ليس في رمضان وإنما في كل الأحوال{ إِذَا أَصْبَحَ أَحَدُكُمْ يَوْماً صَائِماً فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَجْهَلْ فَإِنِ امْرُؤٌ شَاتَمَهُ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ. إِنِّي صَائِمٌ }[3] والحديث الآخر وهو حديث موجه للصالحين وطلاب مصاحبة ومرافقة الصالحين{ إِذَا صُمْتَ فَلْيَصُمْ سَمْعُكَ وَبَصَرُكَ وَلِسَانُكَ عَنِ الْكَذِبِ وَالْمَحَارِمِ }[4] وهذا هو بداية الفتح {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً} بكلام يغضب الله لكن إذا وصيته أو نصحته أو وجهته فليس هذا بالكلام الذي يفسد ويبطل الصيام لكن المقصد في الآية الكلام الذي يبطل الصيام وهو اللغو الذي نهى عنه الله {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} لكن إذا كان الكلام في الغيبة والنميمة والسب والشتم فهذا كلام يبطل الصيام وهذا ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش لكن اللغو هو التسلية أي نتكلم كلاماً لا يسئ إلي أحد لكن ينسي المرء ذكر الواحد الأحد مثل الكلام في الكرة والكلام في السياسة والكلام في أي موضوع حتى يضيع الوقت هل المؤمن عنده وقت يضيعه؟أحرص ما يحرص عليه العبد في حياته أنفاسه التي يتنفسها في هذه الحياة فإن النَفَس الواحد أغلى من الدنيا كلها من أولها إلى آخرها بما فيها ومن فيها عند الله فالصيام عن اللغو هو بداية صيام أهل الفتح ولذلك إذا وجدت نفسك لا تستطيع إمساك لسانك عن لغو الكلام فاعلم أن طريق الفتح عليك مسدود وإذا أردت أن تسود وتفتح لك الكنوز ويواجهك الله بما واجه به الصالحين فعليك بقول سيد الأولين والآخرين{ امْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ وَابُكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ }[5] وبيتك هنا أي قلبك ويسعك بيتك أي تُقبل بالكلية على قلبك تصلحه وتنظفه وتطهره وتعمره بما يحبه الله لأنه الموضع الذي يتجلى فيه الله لأحباب الله بالفتح الذي أعده للصالحين من عباد الله.[1] ابن ماجة عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
[2] مسند الإمام أحمد عن سُليمانَ بنِ بُريدة عن أبيه
[3] صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
[4] رواه البيهقي في فضائل الأوقات عن جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
[5] مسند الإمام أحمد عن عقبة بن عامر عندما سأل رسول الله : ما النجاة؟