خنساءُ هذا العصر
محمد حمدي
سافرت إلى مدينة جدة في مهمة رسمية.. وفي الطريق فوجئت بحادث سيارة.. يبدو أنه وقع لحينه.. كنت أول من وصل إليه.. أوقفتُ سيارتي واندفعتُ مسرعاً إلى السيارة المصطدمة.. تحسستها في حذر..
نظرتُ إلى داخلها.. حدَّقتُ النظر.. خفقات قلبي تنبض بشدة.. ارتعشت يداي.. تسمَّرت قدماي.. خنقتني العبرة.. ترقرقت عيناي بالدموع.. ثم أجهشتُ بالبكاء.. منظر عجيب.. وصورة تبعثُ الشجن..
كان قائد السيارة ملقى على مقودها.. جثة هامدة.. وقد شخص بصره إلى السماء.. رافعاً سبابته.. وقد افتر ثغره عن ابتسامة جميلة.. ووجهه تحيط به لحية كثيفة.. كأنه الشمس في ضحاها.. والبدر في سناه.. العجيب أن طفلته الصغيرة كانت ملقاة على ظهره.. محيطة بيدها على عنقه.. ولقد لفظت أنفاسها وودعت الحياة.. لا إله إلا الله..
لم أَرَ ميتة كمثل هذه الميتة.. طهر وسكينة ووقار.. صورته وقد أشرقت شمس الاستقامة على محياه.. منظر سبابته التي ماتت توحد الله.. جمال ابتسامته التي فارق بها الحياة.. حلَّقت بي بعيداً بعيداً..
تفكرتُ في هذه الخاتمة الحسنة.. ازدحمت الأفكار في رأسي.. سؤال يتردد صداه في أعماقي.. يطرق بشدة.. كيف سيكون رحيلي ؟! على أي حال ستكون خاتمتي ؟! يطرق بشدة.. يمزِّق حجب الغفلة.. تنهمر دموع الخشية.. ويعلو صوت النحيب.. من رآني هناك ظن أني أعرف الرجل.. أو أنَّ لي به قرابة..
كنت أبكي بكاء الثكلى.. لم أكن أشعر بمن حولي ! ازداد عجبي.. حين انساب صوتها يحمل برودة اليقين.. لامس سمعي وردَّني إلى شعوري.. يا أخي لا تبكِ عليه إنه رجل صالح.. هيا هيا.. أخرجنا من هنا وجزاك الله خيراً..
التفتُّ إليها فإذا امرأة تقبع في المقعد الخلفي من السيارة.. تضم إلى صدرها طفلين صغيرين لم يُمسا بسوء، ولم يصابا بأذى.. كانت شامخة في حجابها شموخ الجبال.. هادئة في مصابها منذ أن حدث لهم الحادث ! لا بكاء ولا صياح ولا عويل.. أخرجناهم جميعاً من السيارة.. من رآني ورآها ظنَّ أني صاحب المصيبة دونها..
قالت لنا وهي تتفقد حجابها وتستكمل حشمتها.. في ثبات راضٍ بقضاء الله وقدره: " لو سمحتم اذهبوا بزوجي وطفلتي إلى أقرب مستشفى.. وسارعوا في إجراءات الغسل والدفن.. واحملوني وطفلي إلى منزلنا جزاكم الله خير الجزاء "..
بادر بعض المحسنين إلى حمل الرجل وطفلته إلى أقرب مستشفى.. ومن ثم إلى أقرب مقبرة بعد إخبار ذويهما.. وأما هي فلقد عرضنا عليها أن تركب مع أحدنا على منزلها.. فردَّت في حياء وثبات:
" لا والله.. لا أركب إلا في سيارة فيها نساء ".. ثمَّ انزوت عنا جانباً.. وقد أمسكت بطفليها الصغيرين.. ريثما نجلب بغيتها.. وتحقق أمنيتها ! استجبنا لرغبتها.. وأكبرنا موقفها..
مرَّ الوقت طويلاً.. ونحن ننتظر على تلك الحال العصيبة في تلك الأرض الخلاء.. وهي ثابتة ثبات الجبال.. ساعتان كاملتان.. حتى مرت بنا سيارة فيها رجل وأسرته.. أوقفناه.. أخبرناه خبر هذه المرأة.. وسألناه أن يحملها إلى منزلها.. فلم يمانع..
من فوائد هذه القصة:
ثبات الرجل على دينه واستقامته في آخر لحظات الحياة.. وأول طريق الآخرة.. ثبات المرأة على حجابها وعفافها في أصعب المواقف.. وأحلك الظروف.. ثم صبرها صبر الجبال..
إنه الإيمان.. إنه الإيمان.. قال تعالى: ( يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ ) " سورة إبراهيم: 27 ".
من كتاب: بنات المملكة..